من رحم الحماية إلى سجن الطفولة.. كيف تحوّلت العزلة القسرية في أوروبا إلى شكل جديد من الانتهاك الصامت لحقوق الأطفال؟

من رحم الحماية إلى سجن الطفولة.. كيف تحوّلت العزلة القسرية في أوروبا إلى شكل جديد من الانتهاك الصامت لحقوق الأطفال؟
انتهاكات حقوق الأطفال

 

في عالمٍ يتسم بالتكنولوجيا المتطورة التي جعلت التواصل بين البشر أمرًا سهلاً عبر المسافات، تبدو المفارقة واضحة عندما نواجه واقعًا مُرًا يتمثل في حجز أطفال في عزلة قسرية، بعيدًا عن الحياة الطبيعية التي يحق لهم العيش فيها. 

العزلة القسرية للأطفال، التي كانت في الماضي حالات فردية نادرة، أصبحت اليوم ظاهرة مُقلقة تُهدد رفاهية جيل كامل، ما يثير تساؤلات حول فاعلية الأنظمة الاجتماعية والقانونية، لا سيما في القارة الأوروبية، التي يُفترض بها أن تكون نموذجًا في حماية حقوق الطفل. 

أحد الأمثلة الصادمة التي أُثيرت مؤخرًا كانت حادثة الأطفال الثلاثة في إسبانيا، والذين تم اكتشافهم في ظروف قاسية جدًا، ما يعكس خللاً خطيرًا في النظام الاجتماعي.

عندما كشفت الشرطة الإسبانية في منطقة أستورياس عن حالة مأساوية، كان ثلاثة أطفال قد عاشوا في عزلة قسرية داخل منزلهم لأكثر من ثلاث سنوات، حيث كان التوأمان في سن الثامنة بينما كان الطفل الآخر في العاشرة، ولم يتلقَ هؤلاء الأطفال أي تعليم ولم يشهدوا الحياة الخارجية أو التفاعل الاجتماعي المعتاد. 

وكانت الأوضاع التي وجدوها فيها مذهلة؛ أطفال يعيشون وسط القمامة، يرتدون حفاضات وكمامات جراحية، في منزل مغلق تنبعث منه روائح كريهة، وهذه الحادثة، التي صدمت العالم، لم تكن مجرد حادث فردي، بل أصبحت علامة فارقة في تحليل حالات العزلة القسرية التي يتعرض لها الأطفال في أوروبا.

إن هذه الحادثة تفتح النقاش حول مدى انتشار هذه الظاهرة في أوروبا بشكل عام، وفقًا للبيانات التي أصدرتها منظمة اليونيسف في عام 2023، يُعاني واحد من كل خمسة أطفال في أوروبا من أشكال مختلفة من الإهمال، سواء كان عاطفيًا أو جسدي، بينما تشير إحصائيات المفوضية الأوروبية إلى أن 35% من حالات العنف ضد الأطفال في السنوات الخمس الأخيرة تضمنت العزلة القسرية التي تكون في كثير من الأحيان مبررة تحت مظلة "الحماية" أو "الرعاية".

أسباب العزلة القسرية

هناك العديد من العوامل التي تسهم في وقوع الأطفال في هذه الحالة المأساوية من العزلة، والتي تتمثل في عدة محاور متداخلة.

أحد أبرز هذه العوامل هو التأثير الذي تركته جائحة كوفيد-19 على حياة الأسر الأوروبية، حيث لم تقتصر تأثيراتها على الجوانب الصحية فقط، بل أدت أيضًا إلى تغيير سلوكيات العديد من العائلات التي بدأت تُعاني من هوس مفرط بالحماية، وفي العديد من الحالات، تم فرض العزلة على الأطفال بدافع "الوقاية" من العدوى، وتطور الأمر ليصبح نمط حياة مستمر.

في إسبانيا، على سبيل المثال، 20% من السكان في بعض الدراسات الوبائية أظهروا تغيرات سلوكية مرتبطة بالقلق المفرط بعد الجائحة، ووفقًا لدراسة نُشرت في مجلة "ذا لانسيت" عام 2022، فإن 20% من الأوروبيين طوروا سلوكيات تجنبية شديدة قد تتحول في بعض الحالات إلى اضطرابات نفسية دائمة. 

على الرغم من أن هذه المواقف قد تكون مفهومة في ظل أزمة صحية عالمية، فإن تطبيق هذه العقلية على الأطفال لمدة سنوات طويلة قد يتسبب في أضرار صحية ونفسية خطيرة لهم.

عامل آخر قد يؤدي إلى العزلة القسرية هو الفقر، حيث تشير إحصائيات مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات) إلى أن 12% من الأطفال في إسبانيا يعيشون في ظروف غير ملائمة، كالعشوائيات أو منازل غير صالحة للسكن، وهو ما يعكس هشاشة النظام الاجتماعي في توفير الحماية الكافية للأسر المحتاجة.

في حالات أخرى، يمكن أن يكون الانهيار الأسري أو العجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية للأطفال دافعًا للعزلة، وهو ما يفاقم الوضع بشكل كبير.

من جهة أخرى، هناك حالات أخرى تتعلق بعوامل أيديولوجية، حيث يفرض بعض الآباء عزلة قسرية على أطفالهم بسبب معتقدات دينية أو فكرية متطرفة في ألمانيا، فعلى سبيل المثال، أظهرت تقارير المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية (BKA) لعام 2023 أن 47 حالة تم فيها عزل الأطفال تحت مبررات دينية وفكرية متشددة، خوفًا من تأثير "العالم الخارجي" عليهم.

الآثار النفسية والجسدية

العزلة القسرية لا تترك أثرًا فقط على المستوى الاجتماعي، بل تمتد آثارها لتشمل الجانب النفسي والجسدي للطفل، ويُعد الحرمان من التفاعل الاجتماعي أحد أخطر العوامل التي تؤثر على الأطفال في سنواتهم الأولى، ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن "الحرمان من التفاعل الاجتماعي في السنوات السبع الأولى من حياة الطفل يؤدي إلى انخفاض معدل ذكائه بمقدار 20 نقطة، كما يُضعف من قدرته على التعاطف بنسبة 60%".

أما على الصعيد الجسدي، فإن الجمعية الإسبانية لطب الأطفال تشير إلى أن 60% من الأطفال المعزولين يعانون من مشكلات في النطق والتخاطب، وذلك نتيجة لفقدانهم التفاعل مع أقرانهم ومع المحيط الاجتماعي، بالإضافة إلى ذلك، فإن التعرض المحدود لأشعة الشمس يؤدي إلى نقص في فيتامين د، ما يُسبب مشاكل صحية كبيرة مثل ضعف العظام. كما أن ضمور العضلات يُعتبر من الأضرار الجسدية المترتبة على العزلة لفترات طويلة.

الخلل في شبكة الأمان الاجتماعي الأوروبية

رغم أن أوروبا تُعتبر من القارات المتقدمة في مجال حقوق الطفل، فهناك العديد من الثغرات في الأنظمة الاجتماعية التي تسمح بحدوث هذه الظواهر، ففي إسبانيا على سبيل المثال، تكشف الإحصائيات أن 75% من حالات إساءة معاملة الأطفال يتم الكشف عنها من خلال الجيران أو المدارس لكن ماذا يحدث عندما لا يكون الطفل مُسجلاً في المدرسة أو لا يخرج من المنزل بشكل منتظم؟ وهذه الفجوة في الرقابة الاجتماعية يمكن أن تكون السبب وراء عدم اكتشاف حالات العزلة القسرية في الوقت المناسب.

المفوضية الأوروبية أصدرت تقارير تفيد بأن 40% من البلديات في أوروبا الشرقية لا تملك نظامًا فعالًا للكشف عن حالات الإهمال أو العزلة القسرية، وهو ما يجعل من الصعب ضمان سلامة الأطفال في المناطق النائية وتُظهر هذه البيانات أن العديد من الدول الأوروبية بحاجة إلى تحسين آليات الرقابة والتأكد من تطبيق القوانين المتعلقة بحماية الأطفال.

الحلول الممكنة

ويكمن التحدي الأبرز في كيفية تحقيق توازن بين حماية الأطفال وضمان حقوق الأسر في الخصوصية، بعض النماذج التي تُطبق في بعض الدول الأوروبية قد تكون حلولًا قابلة للتطبيق. في السويد، وعلى سبيل المثال، هناك نظام مراقبة الأبوة، حيث يتم إرسال مفتشين اجتماعيين لزيارة العائلات التي تختار التعليم المنزلي، مما يساعد في ضمان أن الأطفال لا يتعرضون للعزلة القسرية.

في هولندا، تم تطبيق نظام "الأطفال غير المرئيين"، الذي يربط بين السجلات المدنية والمدارس والخدمات الصحية، مما يسهل تتبع الأطفال الذين لا يذهبون إلى المدرسة بشكل منتظم ويكتشف الحالات المشبوهة بسرعة أكبر.

أما في ألمانيا، فقد تم تبني حملات "أبلغ عن جارك"، التي تشجع المواطنين على الإبلاغ عن حالات العزلة أو الإساءة بحق الأطفال، حيث يُمنح المبلغون مكافآت مالية.

خبراء يحذرون من تفكك المنظومة التربوية 

حذّر الدكتور علاء الغندور، استشاري العلاج النفسي والسلوكي، من تفاقم أزمة نفسية صامتة داخل المجتمعات الأوروبية، تؤثر بشكل خاص على الأطفال والأسر، نتيجة الانفصال الاجتماعي والثقافي الذي خلّفته الهجرة والتنوع المجتمعي الكبير، وأوضح أن هذه المجتمعات باتت خليطًا غير متجانس من العادات والتقاليد، مما أنتج تباينات حادة في طرق التربية والتعامل مع الأطفال.

وأشار الغندور في تصريحه لـ"جسور بوست" إلى أن النمط الأوروبي في تربية الأبناء يقوم على دفع الطفل إلى الاستقلال التام عند سن السادسة عشرة، وهو ما يبدو ظاهريًا خطوة نحو النضج، لكنه في الحقيقة يحمل قدرًا كبيرًا من الإهمال العاطفي والقسوة المجتمعية، ولفت إلى أن الدول الإسكندنافية، رغم رفاهها الاقتصادي، تسجل أعلى معدلات الانتحار، ليس بسبب الفقر، بل بسبب شعور الأفراد بالفراغ الوجودي وغياب المعنى والدعم النفسي.

طفولة معذّبة تتوارث الألم

وأوضح الغندور أن كثيرًا من الأسر الأوروبية تعاني من اضطرابات عميقة في العلاقات الأسرية، غالبًا ما تكون انعكاسًا لتجارب الطفولة المؤلمة التي مر بها الأهل أنفسهم، فيعيدون إنتاج القمع والعنف تجاه أطفالهم، وأشار إلى أن بعض الأسر تمارس عزلة قسرية على أطفالها بدعوى حمايتهم من العالم أو من "الحسد"، وهي ممارسات تندرج في القانون الأوروبي ضمن جرائم العنف النفسي، لما لها من آثار مدمرة على شخصية الطفل.

وحذر الغندور من أن العزلة القسرية تفقد الطفل ثقته بنفسه وبالآخرين، وتولد داخله رغبة دفينة في الانتقام ممن سبب له الأذى، ومع تقدم العمر واستمرار التعنيف، يتحول الطفل إلى شخص عدواني، يفرغ غضبه في الآخرين بشكل لا واعٍ، وقد يتحول إلى شخصية انتقامية تؤذي كل من حولها.

أمراض نفسية تتخفّى في أجساد منهكة

أضاف الغندور أن الأطفال الذين يتعرضون للعزلة أو التعنيف معرضون أيضًا لأمراض نفسية مثل الاكتئاب الحاد والرهاب الاجتماعي، وقد تظهر هذه الأعراض في شكل آلام جسدية مزمنة تدفع الطفل لزيارة المستشفيات بحثًا عن علاج عضوي غير موجود، في حين أن أصل العلة نفسي بحت، وتشير التقديرات إلى أن 80% من مراجعي المستشفيات في أوروبا يعانون من مشكلات نفسية تتجلى في أعراض جسدية.

وأشار إلى أن هذه الاضطرابات النفسية تشوش على سلوك الطفل وإدراكه للعالم، وتؤثر سلبًا على تحصيله الدراسي وعلاقاته الاجتماعية، ما قد يدفعه إلى الانحراف أو الإدمان أو حتى الانخراط في الجريمة، وأكد أن هذه الأنماط السلوكية بدأت بالظهور بشكل متسارع في البيئات الأوروبية، ما يتطلب تحركًا عاجلًا لاحتواء الأزمة.

وسلط الغندور الضوء على أثر الجهل المجتمعي في العلاقات الأسرية، مستشهدًا بحالة سيدة في منتصف الأربعينات طلبت الطلاق استنادًا إلى اعتقاد متوارث بأن المرأة بعد هذا العمر لا ينبغي أن تقيم علاقة حميمة مع زوجها، وعلق الغندور على ذلك بالقول إن هذه المعتقدات، رغم عدم استنادها إلى دين أو علم، تتحول إلى قوانين غير مكتوبة تهدم الحياة الزوجية.

في ختام حديثه، دعا الغندور إلى إطلاق برامج تأهيل نفسي واجتماعي للأزواج والمقبلين على الزواج، إلى جانب تدريب المعلمين على التربية غير العنيفة، وتطوير الدراما لتكون وسيلة توجيه تربوي فعالة، كما شدد على ضرورة تحرك مؤسسات الدولة مجتمعة لإصلاح النفسية العامة للمجتمع، قبل أن تتحول الأزمات النفسية إلى قنابل اجتماعية موقوتة.

كورونا فضحت هشاشة البيوت

من جانبها، أكدت الدكتورة أسماء علام، أخصائية أمراض النطق والإرشاد الأسري، أن جائحة كورونا كانت نقطة تحول قاسية في حياة الأطفال، حيث كشفت هشاشة البيوت التي كان يُفترض أن تكون ملاذًا آمنًا، وأوضحت في حديثها لـ"جسور بوست" أن البيوت تحولت خلال الحجر الصحي إلى أماكن مليئة بالخوف والضغط، مع اختفاء الرقابة المجتمعية وإغلاق المدارس، ما تسبب في عزلة خانقة للأطفال.

تابعت الدكتورة أسماء حديثها مؤكدة أن كثيرًا من الأطفال ما زالوا يعانون من تبعات ما بعد الجائحة، حيث ارتفعت معدلات القلق والاكتئاب والعزلة الاجتماعية بينهم بشكل غير مسبوق، وأوضحت أن فترة الحجر الصحي الطويلة، وغياب التفاعل اليومي في المدارس والساحات، سبّبت فراغًا نفسيًا هائلًا لدى الأطفال، خصوصًا في ظل الأجواء المشحونة داخل بعض البيوت.

بيوت فقدت دورها كمصدر للأمان

وأشارت إلى أن بعض الأسر لم تكن مؤهلة نفسيًا ولا تربويًا للتعامل مع الضغوط، فتحولت المنازل إلى أماكن للعنف اللفظي أو الجسدي، أو التجاهل التام، ما جعل الطفل يفقد الشعور بالأمان داخل البيت نفسه، وأكدت أن غياب الدعم النفسي في تلك المرحلة ساهم في تفاقم الأضرار النفسية لدى الأطفال، مضيفة أن بعض الأمهات لجأن إلى أساليب خاطئة في التربية بسبب غياب التوجيه، كحرمان الطفل من الحديث أو حتى من البكاء.

وحذرت الدكتورة أسماء من تجاهل تعبيرات الطفل العاطفية، مؤكدة أن "أخطر ما يتعرض له الطفل هو منعه من البوح، لأنه حين يصمت كثيرًا، يبدأ في بناء عالم داخلي معقد"، وأوضحت أن الطفل لا ينسى تلك اللحظات من القهر أو الإهمال، بل يحتفظ بها في ذاكرته العاطفية، ما يؤثر على شخصيته مستقبلًا.

واختتمت حديثها بدعوة المجتمع إلى إعادة النظر في طرق تربية الأطفال، مشددة على ضرورة دعم الأمهات نفسيًا، وتأهيل الآباء والأمهات للتعامل مع الضغوط من خلال جلسات إرشاد وتوعية، كما دعت المؤسسات التعليمية إلى أن تكون شريكة فاعلة في بناء شخصية الطفل، لا مجرد جهة تلقين، عبر تدريب المعلمين على اكتشاف المشكلات النفسية مبكرًا وتوفير بيئة تعليمية آمنة ومحفزة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية